فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)}.
بقية ما نودي به موسى. والجملة معطوفة على الجمل قبلها انتقالًا إلى محاورة أراد الله منها أن يُري موسى كيفية الاستدلال على المرسَل إليهم بالمعجزة العظيمة، وهي انقلاب العصا حيّة تأكل الحيات التي يظهرونها.
وإبراز انقلاب العصَا حيّةً في خلال المحاورة لقصد تثبيت موسى، ودفع الشكّ عن أن يتطرقه لو أمره بذلك دون تجربة لأنّ مشاهدَ الخوارق تسارع بالنفس بادىء ذي بدء إلى تأويلها وتُدخل عليها الشك في إمكان استتار المعتاد بساتر خفي أو تخييل، فلذلك ابتدىء بسؤاله عما بيده ليوقن أنه ممسك بعصاه حتى إذا انقلبت حيّة لم يشك في أنّ تلك الحيّة هي التي كانت عصاه.
فالاستفهام مستعمل في تحقيق حقيقة المسؤول عنه.
والقصد من ذلك زيادة اطمئنان قلبه بأنه في مقام الاصطفاء، وأن الكلام الذي سمعه كلام من قبل الله بدون واسطة متكلّم معتاد ولا في صورة المعتاد، كما دلّ عليه قوله بعد ذلك {لنريك من آياتنا الكبرى} [طه: 23].
فظاهر الاستفهام أنه سؤال عن شيء أشير إليه.
وبُنيت الإشارة بالظرف المستقر وهو قوله: {بِيَمِينِكَ}، ووقع الظرف حالًا من اسم الإشارة، أي ما تلك حال كونها بيمينك؟.
ففي هذا إيماء إلى أن السؤال عن أمر غريب في شأنها، ولذلك أجاب موسى عن هذا الاستفهام ببيان ماهية المسؤول عنه جريًا على الظاهر، وببيان بعض منافعها استقصاء لمراد السائل أن يكون قد سأل عن وجه اتخاذه العصا بيده لأنّ شأن الواضحات أن لا يسأل عنها إلاّ والسائل يريد من سؤاله أمرًا غير ظاهر، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع: «أيُّ يوم هذا؟» سكت النّاس وظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، وفي رواية أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أليس يوم الجمعة؟... إلى آخره.
فابتدأ موسى ببيان الماهية بأسلوب يؤذن بانكشاف حقيقة المسؤول عنه، وتوقع أن السؤال عنه توسل لتطلب بيان وراءه.
فقال: {هِيَ عَصَايَ}، بذكر المسند إليه، مع أنّ غالب الاستعمال حذفه في مقام السؤال للاستغناء عن ذكره في الجواب بوقوعه مسؤولًا عنه، فكان الإيجاز يقتضي أن يقول: عصاي.
فلما قال: {هِيَ عَصَايَ} كان الأسلوب أسلوب كلام من يتعجب من الاحتياج إلى الإخبار، كما يقول سائل لما رأى رجلًا يعرفه وآخر لا يعرفه: من هذا معك؟ فيقول: فلان، فإذا لقيَهما مرة أخرى وسأله: من هذا معك؟ أجابه: هو فلان، ولذلك عَقب موسى جوابَه ببيان الغرض من اتّخاذها لعلّه أن يكون هو قصد السائل فقال: {أتَوَكَّؤُا عليها وأَهُشُّ بها على غَنَمي ولِي فيها مَئَارِبُ أخرى}.
ففصّل ثمّ أجمل لينظر مقدار اقتناع السائل حتّى إذا استزاده بيانًا زاده.
والباء في قوله: {بِيَمِينِكَ} للظرفية أو الملابسة.
والتوكّؤ: الاعتماد على شيء من المتاع، والاتّكاء كذلك، فلا يقال: توكّأ على الحائط ولكن يقال: توكأ على وسادة، وتوكأ على عصا.
والهَشّ: الخَبْط، وهو ضرب الشجرة بعصًا ليتساقط ورقها، وأصله متعدّ إلى الشجرة فلذلك ضمت عينه في المضارع، ثمّ كثر حذف مفعوله وعدي إلى ما لأجله يوقع الهش بعلى لتضمين {أهشّ} معنى أُسقط على غنمي الورق فتأكله، أو استعملت {على} بمعنى الاستعلاء المجازي كقولهم: هو وكيل على فلان.
ومَآرب: جمع مَأرُبة، مثلث الراء: الحاجة، أي أمور أحتاج إليها.
وفي العصا منافع كثيرة روي بعضها عن ابن عباس، وقد أفرد الجاحظ من كتاب البيان والتبيين بابًا لمنافع العصا.
ومن أمثال العرب: هو خير من تفارق العصا.
ومن لطائف معنى الآية ما أشار إليه بعض الأدباء من أن موسى أطنب في جوابه بزيادة على ما في السؤال لأنّ المقام مقام تشريف ينبغي فيه طول الحديث.
والظاهر أنّ قوله: {مَئَارب أُخرى} حكاية لقول موسى بمماثله، فيكون إيجازًا بعد الإطناب، وكان يستطيع أن يزيد من ذكر فوائد العصا.
ويجوز أن يكون حكاية لقول موسى بحاصل معناه، أي عدّ منافع أخرى، فالإيجاز من نظم القرآن لا من كلام موسى عليه السلام.
والضمير المشترك في {قال ألقِها} عائد إلى الله تعالى على طريقة الالتفات من التكلّم الذي في قوله إنني أنا الله؛ دعا إلى الالتفات وقوع هذا الكلام حوارًا مع قول موسى: هي عصاي... إلخ.
وقوله: {أَلقِهَا} يتضح به أن السؤال كان ذريعة إلى غرض سيأتي، وهو القرينة على أن الاستفهام في قوله: {وما تلك بيمينك} مستعمل في التنبيه إلى أهمية المسؤول عنه كالذي يجيء في قوله: {وما أعجلك عن قومك يا موسى} [طه: 83].
والحيّة: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عضّ بنأبيه قتل المعضوض، ويطلق على الذكر.
ووصف الحيّة بتسعى لإظهار أنّ الحياة فيها كانت كاملة بالمشي الشديد.
والسعي: المشي الذي فيه شدّة، ولذلك خصّ غالبًا بمشي الرجل دون المرأة.
وأعيد فعل {قَالَ خُذْهَا} بدون عطف لوقوعه في سياق المحاورة.
والسيرة في الأصل: هيئة السير، وأطلقت على العادة والطبيعة، وانتصب {سِيرَتَها} بنزع الخافض، أي سنعيدها إلى سيرتها الأولى التي كانت قبل أن تنقلب حيّة، أي سنعيدها عصًا كما كانت أول مرة.
والغرض من إظهار ذلك لموسى أن يعرف أنّ العصا تطبعت بالانقلاب حيّة، فيتذكر ذلك عند مناظرة السحرة لئلا يحتاج حينئذ إلى وحي.
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)}.
هذه معجزة أخرى عَلمه الله إياها حتى إذا تحدّى فرعون وقومه عمل مثل ذلك أمام السحرة.
فهذا تمرين على معجزة ثانية مُتّحِد الغرض مع إلقاء العصا.
والجناح: العضد وما تحته إلى الإبط.
أطلق عليه ذلك تشبيهًا بجناح الطائر.
والضمّ: الإلصاق، أي ألصق يدك اليمنى التي كنت ممسكًا بها العصا.
وكيفية إلصاقها بجناحه أن تباشر جِلدَ جناحه بأن يدخلها في جَيْب قميصه حتى تماس بَشرة جنبه، كما في آية سورة سليمان: {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء} [النّمل: 12].
جعل الله تغيّر لون جلد يده مماستها جناحه تشريفًا لأكثر ما يناسب من أجزاء جسمه بالفعل والانفعال.
و{بيضَاءَ} حال من ضمير {تَخْرُجُ}، و{مِنْ غيرِ سُوءٍ} حال من ضمير {بَيْضَاء}.
ومعنى {مِنْ غير سُوءٍ} من غير مَرض مثل البَرص والبَهق بأن تصير بيضاء ثم تعود إلى لونها المماثل لونَ بقية بشرته.
وانتصب {آيةً} على الحال من ضمير {تَخْرُجُ}.
والتعليل في قوله: {لِنُريكَ مِن ءاياتنا الكُبْرى} راجع إلى قوله: {تَخْرُجُ بَيْضَاءَ}، فاللام متعلّقة ب {تَخْرُجُ} لأنّه في معنى نجعلها بيضاء فتخرج بيضاء أو نخرجها لك بيضاء.
وهذا التعليل راجع إلى تكرير الآية، أي كررنا الآيات لنريك بعض آياتنا فتعلم قدرتنا على غيرها، ويجوز أن يتعلق {لِنُرِيكَ} بمحذوف دلّ عليه قوله: {ألقها} وما تفرّع عليه.
وقوله: {واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} وما بعده، وتقدير المحذوف: فعلنا ذلك لنريك من آياتنا.
و{مِن ءاياتنا} في موضع المفعول الثاني ل {نريك} فتكون {مِن} فيه اسمًا بمعنى بعض على رأي التفتزاني.
وتقدّم عند قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} في سورة البقرة (8)، ويشير إليه كلام الكشاف هنا.
و{الكبرى} صفة ل {ءاياتنا}.
والكِبر: مستعار لقوّة الماهية.
أي آياتنا القوية الدلالة على قدرتنا أو على أنا أرسلناك. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)}.
ما: استفهامية. والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنَّت، هو الذي يمسكه موسى في يده، والكاف للخطاب، كأنه قال له: ما هذا الشيء الذي معك؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة: عَصَا.
أمّا موسى عليه السلام فهو يعرف أن الله تعالى هو الذي يسأل، ولا يَخْفَى عليه ما في يده، ولكنه كلام الإيناس؛ لأن الموقف صعب عليه، ويريد ربه أنْ يُطمئنَه ويُؤنِسَه.
وإذا كان الإيناس من الله، فعلى العبد أنْ يستغلّ هذه الفرصة ويُطيل أمدَ الائتناس بالله عز وجل، ولا يقطع مجال الكلام هكذا بكلمة واحدة؛ لذلك رد موسى عليه السلام: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}.
قال موسى: {قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه: 18]، ثم يفتح لنفسه مجالًا آخر للكلام: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد، فيحاول الاختصار: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18].
وكان موسى ينتظر سؤالًا يقول: وما هذه المآرب؟ ليُطيل أُنْسه بربه، وإذا كان الخطاب مع الله فلا يُنهِيه إلا زاهد في الله.
وللعصا تاريخ طويل مع الإنسان، فهي لازمة من لوازم التأديب والرياضة، ولازمة من لوازم الأسفار، ولها أهميتها في الرعي.... إلخ. وهنا يذكر موسى عليه السلام بعض هذه الفوائد يقول:
{أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أي: أعتمد عليها، وأستند عندما أمشي، والإنسان يحتاج إلى الأعتماد على عصا عند السير وعند التعب؛ لأنه يحتاج إلى طاقتين: طاقة للحركة والمشي، وطاقة لحمل الجسم والعصا تساعده في حَمْل ثقل جسمه، خاصة إنْ كان مُتْعبًا لا تقوَى قدماه على حَمْله.
فقوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] أي: أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند عليها، والاتكاء يراوح الإنسان بين قدميْه فيُريح القدم التي تعبتْ، وينتقل من جنب إلى جنب.
والإنسان إذا ما استقرّ جسمه على شيء لمدة طويلة تنسدّ مسامّ الجسم في هذا المكان، ولا تسمح بإفراز العرق، فيُسبِّب ذلك ضررًا بالغًا نراه في المرضى الذين يلازمون الفراش لمدة طويلة، ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها قرحة الفراش؛ لذلك ينصح الأطباء هؤلاء المرضى بأن يُغيِّروا من وضْعِهم، فلا ينامون على جنب واحد.
لذلك شاءت قدرة الله عز وجل أنْ يُقلِّب أهل الكهف في نومهم من جَنْب إلى جَنْب، كما قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18].
لذلك إذا وقف الإنسان طويلًا، أو جلس طويلًا ولم يجد له متكأ تراه قَلِقًا غير مستقر، ومن هنا كان المتَّكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى في شأن امرأة العزيز: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا} [يوسف: 31].
وقال عن نعيم الآخرة: {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} [الطور: 20].
وقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54].
وقال الحق تبارك وتعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76].
فالاتكاء وسيلة من وسائل الراحة، وعلى الإنسان أنْ يُغيٍِّر مُتكاهُ من جنب إلى جنب حتى لا يتعرّض لما يسمى بقرحة الفراش.
ومن فوائد العصا: {وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] أي: أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط فتأكلها الغنم والماشية؛ لأن الراعي يمشي بها في الصحراء، فتأكل من العِذْي، وهو النبات الطبيعي الذي لم يزرعه أحد، ولا يسقيه إلا المطر، فإن انتهى هذا العُشْب اتجه الراعي إلى الشجر العالي فيُسقِِط ورقه لتأكله الغنم، فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة.
إذن: قوله: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18] لراحته هو، و{وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي} [طه: 18] لخدمة الرعية، وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس، ورَعْي الغنم وسياستها تدريب على سياسة الأمة بأسْرها؛ لذلك ما بعث الله من نبي إلا ورَعَى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة الإنسان.
وفي الحديث الشريف: «ما بعث الله من نبي إلا ورعى الغنم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة».
ولما أحسَّ موسى عليه السلام أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] أي: منافع.
وقد حاول العلماء جزاهم الله عَنَّا خيرًا البحث في هذه المآرب الأخرى التي لم يذكرها موسى عليه السلام، فتأملوا حال الرعاة، وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما ذكر.
من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويُعلِّق عليها زاده من الطعام والشراب، وبعض الرعاة يستغل وقته أيضًا في الصيد، فيحتاج إلى أدوات مثل: القوس، والنبل، والسهام والمخلاة التي يجمع فيها صَيْده، فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض، ويُعلِّق عليها هذه الأدوات من الجانبين.
فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظلالًا غرز عصاه في الأرض، وألقى بثوبه عليها فجعل منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو. فإن احتاج للماء ذهب للبئر، وربما وجده غائر الماء لا يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويُطيل بها الحبل، إلى غير ذلك من المنافع.
وبعض العلماء يقولون: لقد كان موسى عليه السلام ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل الحديث معه، لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك؛ لأنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا، فما ذكْرتَه يا موسى مهمة العصا معك، أمّا أنا فأريد أنْ أخبرك بمهمتها معي:
ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ أَلْقِهَا ياموسى}.
ارْم بها على الأرض، وهو هنا إلقاء الدُّرْبة والتمرين على لقاء فرعون، وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام، لم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية، قال الحق سبحانه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ}.
وهذه نَقْلة كبيرة في مسألة العصا، فقد كان في الإمكان لإثبات المعجزة أنْ تتحوَّل العصا، وهي عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء، لكن الحق تبارك وتعالى يُجرِي لموسى هذه المعجزة؛ لأنه سيحتاج إليها فيما بعد، ولو تحولتْ العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في مكانها، أما حين تتحول إلى حيّة فهي حيوان مُتحَرِّك، تجري هنا وهناك، وهذا ما سيحتاجه موسى في معركته القادمة.
ألقى موسى عصاه {فَإِذَا هِيَ} [طه: 20] إذا هنا فجائية كما تقول: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب. وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حيّة، وحيّة تسعى ليستْ جامدة ميتة، أليست هذه مفاجأة؟
وطبيعي أن يخاف موسى عليه السلام مما رآه، فطمأنه ربه فقال: {قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ}.
أي: امسكها بيدك، وسوف نعيدها في الحال {سِيَرتَهَا الأولى} [طه: 21] أي: كما كانت عصا يابسة جافة في يدك، وقال: {لاَ تَخَفْ} [طه: 21] لما ظهر عليه من أمارات الخوف. وقد أخبر عن خوفه في آية أخرى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67].
وكانت هذه المسألة تدريبًا لموسى عليه السلام وتجربةً، فللعصا مهمة في رسالته، وسوف تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر وفي دعوته لبني إسرائيل حين يضرب بها الحجر فيتفجّر منه الماء.
وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة، فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان. ومرة يقول: حيّة. وأخرى يقول: جان؛ لذلك اعترض البعض على هذه الاختلافات، فأيها كانت العصا؟
الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبتْ، فمن ناحية قتْلتها المميتة هي حية، ومن ناحية ضخامتها ثعبان، ومن ناحية خِفَّة حركتها جان، وكل هذه الخصائص كانت في العصا، وحين تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أنْ صارت حية. فآيات القرآن إذن تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ}.
اليد معروفة، والجناح للطائر، ويقابله في الإنسان الذراع بداية من العَضُد، والحق سبحانه حينما أوصانا بالوالدين قال: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] يعني: تواضع لهما، ولا تتعالَ عليهما.
وفي موضع آخر قال تعالى: {اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [القصص: 32].
والجَيْب: طَوْق القميص، سُمِّي جَيْبًا؛ لأنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به النقود أو خلافه في داخل الثوب، ليكون بعيدًا عن يد السارق، فإذا ما احتاج الإنسان شيئًا في جَيْبه يُدخِل يده من طَوْق القميص ليصل إلى الجيْب فسُمِّي الطوق جيبًا. وهذا من مظاهر التكامل بين الآيات.
والمعنى هنا: اضمم كف يدك اليمنى، وأدْخله من طَوْق قميصك إلى تحت عَضُدك الأيسر {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] أي: ساعة أنْ تُخرِج يدك تجدها بيضاء، لها ضوء ولمعان وبريق وشعاع.
ومعلوم أن موسى عليه السلام كان أسمر اللون، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما طُلِب منه أنْ يَصف الرسل الذين لقيهم في رحلة الإسراء والمعراج، فقال: «أما موسى، فرجل آدم طُوَال، كأنه من رجال أزد شنوءة....» أي: أسمر شديد الطول؛ لأن طُوَال يعني: أكثر طولًا من الطويل.
ومن هنا كان بياضُ اليد ونورها في سُمْرة لونه آيةً من آيات الله، ولو كان موسى أبيض اللون ما ظهر بياضُ يده.
وقوله: {مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] أي: من غير مرض، فقد يكون البياض في السُّمرة مرضًا والعياذ بالله كالبرص مثلًا. فنفى عنه ذلك.
وقوله تعالى: {آيَةً أخرى} [طه: 22] أي: معجزة، لكنه لم يقُلْ شيئًا عن الآية الأولى، فدلَّ ذلك على أن العصا كانت الآية الأولى، واليد الآية الأخرى.
ثم يقول الحق سبحانه: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى}.
أي: نُريك الآيات العجيبة عندنا؛ لتكون مقدمة لك، فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن الذي يأمرك ربُّ لن يغشَّك، ولن يتخلى عنك، وسوف يُؤيدك وينصرك، فلا ترتَعْ ولا تخف أو تتراجع.
وكأن الحق تبارك وتعالى يُعِدُّ نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى الألوهية. اهـ.